رؤيا مجد المسيح هي الملكوت:
__________________________
ولكن كان متوقَّعاً من الرسل، وهم لم يكونوا بعد قد توشَّحوا بالقوة من الأعالي (لو 24: 49) أن يستسلموا للجهالة البشرية ويقولوا في أنفسهم: ”وكيف يتسنَّى للإنسان أن يُنكر نفسه؟ أو كيف يتأتَّى لإنسان ضيَّع حياته أن يجدها ثانية؟ وما هو الجزاء المتكافئ الذي يناله مَن عانى هذا الضياع؟ وما نوع هذا الجزاء الذي سوف يُشارك فيه“؟
فلكي ينزع من أذهان الرسل مثل هذه الأفكار والكلمات، ويتسامى بهم إلى رفعة النفس، ويوقظ فيهم الرغبة في نوال المجد العتيد أن ينسكب عليهم؛ يقول لهم: «الحق أقول لكم: إن من القيام ههنا قوماً لا يذوقون الموت حتى يروا ابن الإنسان آتياً في ملكوته» (مت 16: 28).
فأيُّ شيء كان يقصده الرب من ذلك؟ هل كان يقصد أن مدة حياتهم سوف تطول إلى أن يبلغوا الأيام التي سيأتي فيها المسيح من السماء في نهاية الدهور، ويهب للقدِّيسين الملكوت المعدَّ لهم؟ هو بلا شك يستطيع ذلك، لكنه لم يكن يقصده.
إن الرب يدعو ملكوته بأنه رؤيا مجده، هذا المجد الذي أعدَّ لتلاميذه أن يروه، ويُشرق عليهم كما تُشرق الشمس على الأرض. لقد قصد الرب أن يجعلهم ينظرون عجيبة مجيئه الثاني في مجد أبيه، الذي هو مزمع أن يُكمله في نهاية الدهور منذ الآن، فكانت رؤيا التجلِّي.
لذلك فقد صعد إلى جبلٍ عالٍ، وأخذ معه ثلاثة من تلاميذه اختارهم من بين الاثني عشر. وهناك تجلَّى في مجدٍ عجيب، كانت ثيابه فيه تلمع وكأنه متوشِّح بالنور نفسه. ثم ظهر موسى وإيليا النبيَّيْن القديمَيْن، ووقفا إلى جواره وطفقا يتكلَّمان عن موته على الصليب الذي كان مزمعاً أن يتمَّ في أورشليم، وكانا يتكلَّمان عن تدبير فدائه الذي كان لابد أن يتمَّ بتجسُّده وبآلامه المحيية التي ستتم على الصليب
مغزى ظهور موسى وإيليا مع المسيح:
__________________________
إن لذلك معاني كثيرة:
1 - فأولاً، إن ناموس موسى ونبوَّات الأنبياء هي رموز لسرِّ المسيح: الناموس برموزه ومثالاته كما بلوحيه المكتوبين، والأنبياء بنبوَّاتهم القديمة وبأنواع وطرق كثيرة؛ كانت ترمز إلى ظهور الرب بشبهنا، وإلى أنه من أجل خلاص البشر وحياتهم الأبدية سيقبل موت الصليب. لذلك وقف موسى وإيليا بجواره وتكلَّما معه، ليتضح أن الناموس والأنبياء كانا في حضرة ربنا يسوع المسيح كحضرة العبد أمام سيد الناموس والأنبياء، وأنه بشهادتهما معاً يُستعلَن الرب بواسطتهما. لأن ما أعلنه الناموس ثبَّته الأنبياء. وموسى هو أقدس الآباء، وإيليا هو أقدس الأنبياء.
2 - وإليكم تأمُّل آخر: ذلك أنه كان بين الشعب مَن يقول إن المسيح هو إيليا، وبعضهم كان يقول عنه إنه إرميا، وآخرون إنه واحد من الأنبياء (مت 16: 14). لذلك فقد استحضر الرب أمامهم أعظم الأنبياء ليروا عِظَم الاختلاف بين السيِّد والعبد.
3 - ثم هذا تأمُّل آخر: فلأن اليهود كانوا يتهمون الرب بأنه ينقض الناموس، وأنه يُجدِّف، وأنه ينسب لنفسه مجداً ليس له أصلاً بل للآب، وكانوا يقولون: «هذا الإنسان ليس من الله، لأنه لا يحفظ السبت» (يو 9: 16)، و«لسنا نرجمك لأجل عمل حسن، بل لأجل تجديف، فإنك وأنت إنسانٌ تجعل نفسك إلهاً» (يو 10: 33)؛ لهذا فقد أتى بهذين النبيَّيْن أمامهم، وهما كانا يبزَّان غيرهما سواء في الناموس أو بين الأنبياء، لكي يُظهِر أنَّ كِلاَ الاتهامين نابعان عن حقد، وأنه بريء منهما، وأنَّ ما صنعه ليس كسراً للناموس.
فإن موسى أعطاهم الناموس، واليهود يعلمون جيداً أنه لا يمكن أن يتغاضى عن أي اعتداء على الناموس - كما تصوَّروه اعتداءً - كما أن موسى لا يمكن أن يُكرِم مَن تعدَّى على الناموس الذي سلَّمه لهم. ثم إن إيليا كان إنساناً ممتلئاً غيرة على مجد الرب. فإن كان المسيح عدو الله وقال عن نفسه إنه مساوٍ للآب، فإن ما قاله ليس حقاً؛ وإن لم يكن يعمل ما هو حق، فما كان إيليا قد وقف إلى جانبه وأعطاه التوقير اللائق.
4 - ثم هناك سببٌ آخر: لكي يعرفوا أن له السلطان على الحياة والموت، وله السيادة على الذين فوق (في السماء) والذين أسفل (في الجحيم)، لذلك فقد استحضر أمامهم مَن هو حيٌّ في السماء (أي إيليا الذي صعد إلى السماء - 2مل 2: 11)، ومَن ذاق الموت (أي موسى الذي مات ودُفن). وحينما ظهر هذان لم يبقيا صامتَيْن، بل تكلَّما معه عن مجده العتيد أن يُكمله في أورشليم، أي آلامه وصليبه ثم قيامته.
حتمية الصليب لإكمال الفداء:
___________________________
أما التلاميذ المباركون فقد ناموا برهة، بينما كان المسيح مُنهمكاً في الصلاة. ثم بعد أن استيقظوا أصبحوا شهوداً عياناً لهذا التجلِّي المقدس العجيب. أما بطرس فقد ظن أن يوم ملكوت الله قد أتى، فاشتاق أن يبقى هناك على الجبل، وقال - «وهو لا يعلم ما يقول» (لو 9: 33) - إنه لابد من بناء ثلاثة مساكن هناك.
لكن يوم نهاية العالم لم يكن قد حلَّ بعد، ولا في هذا اليوم كان سيُشارك المقدَّسين في الرجاء العتيد الموعودين به، لأن الرسول (بولس) يقول: «الذي سيُغيِّر شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده» (في 3: 21)، أي على صورة جسد مجد المسيح. ذلك لأن التدبير الإلهي لفدائنا كان ما زال في بدايته، ولم يكن قد استُكمل بعد، لأن المسيح أتى إلى العالم بسبب محبته، لذا فهو سيتألم عنه، وسيفتدي طبيعتنا الأرضية حينما يموت وهو في جسدنا، وعندما يقوم من بين الأموات سيُحرِّر هذا الجسد.
بطرس، إذن، لم يكن يعلم ما هذا الذي يقوله!